بين الركام والأنقاض.. "العنقاء" معرض يجمع فنانات غزة لتوثيق الإبادة والتجويع

بين الركام والأنقاض.. "العنقاء" معرض يجمع فنانات غزة لتوثيق الإبادة والتجويع
معرض "العنقاء" في غزة

افتتح معرض "العنقاء"، الأربعاء، في قطاع غزة، وسط أنقاض حرب الإبادة الجماعية المتواصلة منذ أكتوبر 2023، ليحمل لوحاتٍ من وجع الحرب، رسمتها فنانات فقدن مراسمهن وأدواتهن وحتى منازلهن، لكنهن رفضن الموت في صمت، وقررن إيصال صوتهن للعالم عبر الفن.

استلهمت المشاركات في المعرض اسم "العنقاء" من الطائر الأسطوري الذي ينهض من تحت الرماد، في دلالة على قدرة الفنان الفلسطيني، خاصة المرأة، على استعادة الحياة وسط الركام، والعودة إلى الإبداع رغم الحرمان والتشريد والتجويع والانهيار الصحي الكامل الذي يعيشه القطاع، بحسب ما ذكرت وكالة أنباء المرأة. 

وضم المعرض 55 لوحة فنية، نفذها 25 فناناً وفنانة، غالبيتهم من النساء، بعد دورة تدريبية مكثفة استمرت نحو شهر ونصف الشهر، وعبّروا خلالها عن الواقع تحت النار، مستخدمين خامات بديلة من الفحم، والخشب، والبلاستيك، والكانفس، لتعويض فقدان المواد الفنية التقليدية.

الانبعاث من الألم

جسّدت الفنانة التشكيلية بسمة الجراح رمزية الانبعاث من الألم بلوحتين أطلقت عليهما اسم "الانكسار" و"إعادة الترميم"، مؤكدة أن الفن أصبح أداة بقاء ووسيلة مقاومة لدى نساء غزة.

وأوضحت الجراح، أن اختيار اسم المعرض "العنقاء" يحمل رسالة مباشرة بأن الفنان الغزّي قادر على النهوض من العدم، تماماً كما تنهض العنقاء من تحت الرماد. 

وأضافت: "فقدنا مراسمنا، أدواتنا، وأحياناً أفراد عائلتنا، لكننا أصررنا على أن نعود للعالم من بين الرماد". 

وتابعت بأن أولى لوحاتها "الانكسار" تسلط الضوء على لحظة الفقد الأولى، سواء كانت فقدان الأشخاص أو الأحلام أو الممتلكات، في حين حملت لوحتها الثانية عنوان "إعادة الترميم"، وهي رسالة أمل بأن الذات يمكن أن تلتئم من جديد، وأن المرأة في غزة قادرة على أن تكون أقوى بعد كل ما تعرضت له.

مقاومة الصورة النمطية

أبرزت الفنانة التشكيلية إيناس ريان أهمية مقاومة الصورة النمطية التي تحاول إسرائيل تصديرها عن نساء غزة، من خلال الإبداع الفني، واستعرضت ثلاث لوحات جسدت فيها التاريخ والتراث والمقاومة.

شددت ريان على أن المعرض لا يهدف فقط إلى توثيق الإبادة الجماعية، بل إلى مخاطبة الضمير العالمي وإظهار الوجه الحقيقي للمرأة الفلسطينية التي تصر إسرائيل على تشويهها. وقالت: "لا نسعى للدمار، بل نحب الحياة، ولدينا تاريخ وتراث يجب أن نحكيه للعالم". 

وقدّمت ثلاث لوحات، أولها بعنوان "محمد مش حمود"، تحاكي حياة طفل بات مسؤولاً عن أسرته بعد فقد والده، فيما حملت الثانية عنوان "ذهب عتيق"، وأبرزت فيها علاقة الفلسطيني بأرضه، والقمح، والزيتون، أما الثالثة "لن نرى سواها"، فقد عبّرت فيها عن قناعتها بأن المقاومة هي الطريق الوحيد للنجاة من هذا المصير.

رسالة تحمل وجع النساء

استعادت الفنانة التشكيلية رغد درويش شغفها الفني رغم قصف مراسمها وتدمير أماكن الثقافة في غزة، وأكدت أن رسالتها في المعرض تحمل وجع النساء الفلسطينيات وتمسكهن بالحياة.

وأكدت درويش أن مشاركتها جاءت بعد انقطاع قسري، حيث مثّلت العودة إلى الرسم بمنزلة عودة للروح. وركّزت في أعمالها على معاناة المرأة الفلسطينية التي تحمّلت آلام الفقد والنزوح، ولكنها بقيت ثابتة وصامدة. 

وقالت: "جسدت الفتاة التي تحمل كفن شهيد ومفتاح البيت، لأننا نولد ومعنا هذه الرموز، ونعيش بها حتى الموت". 

وانتقدت درويش الاستهداف المتعمد للثقافة والفن من قبل الاحتلال الإسرائيلي، موضحة أن "المعارض، المقاهي الثقافية، المراسم، كلها أهداف في بنك الاحتلال"، لكنها تصر على أن الفن باقٍ، والرسالة ستصل.

رسائل النساء الغزّيات

عبّرت الفنانة والمصممة نور القصصية عن الصدمات النفسية عبر لوحاتها، مستخدمة خيوط التطريز والطيور رموزاً للحرية المأسورة، وشاركت في معارض دولية نُقلت فيها رسائل النساء الغزّيات إلى العالم.

قالت القصصية إنها حاولت توثيق التروما والهلع والخوف الذي تعانيه النساء في غزة، ولا سيما مع استمرار القصف، وغياب الأمان، والانهيار الكامل للخدمات الصحية والاجتماعية. 

وذكرت أن إدخال الطير في لوحاتها جاء للدلالة على الرغبة في التحليق رغم الحصار، مشيرة إلى أنها شاركت في معارض خارجية، أحدها في الولايات المتحدة، حيث بيعت جميع لوحاتها في اليوم نفسه، ما عدته مؤشراً على أن رسائل الفن تصل حتى حين تفشل السياسة والإعلام.

توثيق بلون الدم

عادت الفنانة نداء أحمد إلى الفن من تحت الرماد، بعد تهجيرها قسرياً لثلاثة أعوام، لتوثق بلون الدم لوحة طفل ينتظر كيس دقيق، مستخدمة صناديق المساعدات وشارات برامج الأغذية في أعمالها.

وقالت أحمد، إنها حاولت إيصال فكرة "لقمة مغمسة بالدم" من خلال لوحة تجسد طفلاً جائعاً ينتظر الإغاثة وسط الدمار. 

وأضافت أنها استخدمت أدوات بسيطة كالشاش والمحاليل الطبية لتعكس الواقع الذي يعيش فيه الغزي، حيث الجرح مفتوح، والبقاء على قيد الحياة يحتاج لمعجزة. 

وأكدت أن أعمالها السابقة كانت ملونة ومليئة بالحيوية، أما اليوم، فلم تعد تستطيع سوى استخدام الألوان الداكنة. 

وتابعت: "أحلم أن تصبح هذه اللوحات ذكرى فقط، ولا أضطر لرسم مشاهد مماثلة مجددًا".

الفن في غزة لم يمت

أثبت معرض "العنقاء" أن الفن في غزة لم يمت، وأن المبدعين الغزّيين، خصوصًا النساء، لا زالوا قادرين على إيصال أصواتهم من تحت الركام، وسط تجاهل العالم لجرائم الإبادة.

أبرز المعرض مشهدًا نادراً في خضم الحرب: شعب يرفض الموت، ونساء يقاتلن بالصورة واللون بدل الرصاص. وعبّر الحضور عن فخرهم بما قدمه الفنانون رغم ظروفهم المأساوية. 

ولم يأتِ هذا المعرض فقط من رحم الحرب، بل حمل أيضًا رسائل أمل، وتوثيقًا إنسانيًا يتحدى السردية الإسرائيلية القائمة على تشويه الفلسطيني وتجريده من إنسانيته. 

ومن خلال 55 لوحة، تحدّت غزة النسيان، لتقول للعالم: "نحن هنا.. نحيا.. ونرسم من الرماد حياةً جديدة".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية